إذا كنت تطالع أخبار إسرائيل على شاشة التليفزيون، وشاهدت أشخاصاً يرتدون معاطف سوداء طويلة وقبعات سوداء مرتفعة، وتتدلى على جانبي وجوههم خصلات رفيعة، فربما أنت أمام مجموعة من "الحريديم".
وبرزت طائفة "الحريديم" بشكل أكبر مع تطورات الحرب التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة، مع تسليط الأضواء عليهم باعتبارهم لا ينخرطون في الجيش الإسرائيلي بدعوى أنهم يقومون بواجب أكثر قدسية من وجهة نظرهم ويتطلب التفرغ التام، وهو دراسة كتاب "التوراة".
ماذا تعني كلمة "حريديم"؟
"حريديم" هي كلمة عبرية في صيغة الجمع، والمفرد منها "حريد"، وتعني "متدين" أو "تقي".
من هم "الحريديم"؟
يشير هذا المسمى إلى اليهود الأرثوذكس المحافظين دينياً وسياسياً واجتماعياً، والذين يشار إليهم أحياناً باسم "الأرثوذكسية المتطرفة".
ويحافظ "الحريديم" على كافة الأنظمة والقوانين الوارد ذكرها في التوراة والكتب الدينية المقدسة، ويعارضون بشدة إحداث أي تغيير فيها.
ويعتقد هؤلاء أن دولة إسرائيل ونظم حياة اليهود يجب أن تسير وفق قوانين وأنظمة الشريعة اليهودية وليس بموجب قوانين حددها ونظمها بني البشر. ويحاولون بين الفينة والأخرى فرض شرائع التوراة على المشهد الحياتي في إسرائيل، وفق المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية.
ومن أجل منع التأثير الخارجي وتضرّر القيم والممارسات الدينية، يسعى "الحريديم" إلى الحد من اتصالهم بالعالم الخارجي، وتجنب قدر الإمكان التحدث مع من هم خارج طائفتهم، ويقتصر التّفاعل مع الغرباء عموماً على المعاملات الاقتصادية والعلاقات العامة التي لا يمكن تجنّبها، مثل الذهاب إلى مكتب البريد، وفق موقع "ماي جويش ليرنيج".
كم عدد "الحريديم" في إسرائيل؟
في العام 1950، كان "الحريديم" يشكلون حوالي 3% من إجمالي سكان إسرائيل. وبحلول عام 2009، ارتفعت نسبتهم إلى 10%، ويشكلون حالياً 13% من السكان.
ووفقاً للتحليل الديموغرافي الذي أجراه مكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي، فمن المتوقع أن يشكلوا 16% في 2030، وأكثر من 30% بحلول عام 2065.
متى ظهر "الحريديم"؟
في القرن التاسع عشر، ومع انتشار مظاهر التصنيع والتحضر في أوروبا الشرقية، واجه عدد من اليهود الوضع الجديد بإطلاق حركة متشددة تدعو للتشبث باليهودية المتربطة بـ"التوراة" والحفاظ عليها، على المستويين الفردي والجماعي، وعدم الانصهار في مظاهر "التحديث" ومناهضة العلمانية، وفقاً لموقع "فاثوم جورنال".
وكان من بين القادة الحريديين الرئيسيين في هذا العصر شخصيات حاخامية بارزة في أوروبا الشرقية مثل الحاخام حاييم من فولوزين (1749-1821)، والحاخام يسرائيل مئير كاجان، المعروف أيضاً باسم تشوفيتس حاييم (1838-1933).
ومثّل تأسيس جماعة "أجودات يسرائيل" في بولندا عام 1912، وهي مجموعة تمثل المصالح الاجتماعية والثقافية لليهود المتدينين بشدة، بمثابة لحظة رئيسية في ظهور الحركة الحريدية.
وهكذا تمسّك "الحريديم" بملابسهم وطرقهم التقليدية وواجهوا كل مظاهر الحداثة التي كانت تزحف على أوروبا في نهاية القرن التاسع عشر. وكانوا يتحدثون باللغة اليديشية (مزيج من اللغتين العبرية والألمانية)، ويصلون فقط باللغة العبرية، وهي لغة مقدسة للغاية للتواصل الاجتماعي.
وعندما بدأت "الحركة الصهيونية" تتبلور في أوروبا خلال عام 1897، عارضوها بقوة، وقالوا إن "الله وحده هو القادر على إنشاء إسرائيل الجديدة". وزعموا أن اليهودية هي في الأساس مجتمع ديني، وأن المفاهيم الحديثة للعرق والأمة غريبة عنها. وهكذا، بالنسبة للعديد من الحريديم، تظل دولة إسرائيل "تدنيساً" لدينهم، وفق موقع "ماي جويش ليرنيج".
وفي عام 1898، ألقى الحاخام الأكبر نفتالي هيرمان أدلر، خطبة أدان فيها الصهيونية الحديثة باعتبارها تعارض التوراة، قائلاً: "إنني أنظر إلى هذه الحركة وأشعر بالقلق من قلبي، لأنني أراها تتعارض مع الكتاب المقدّس".
وخلال واقعة المحرقة (الهولوكوست)، قُتلت الغالبية العظمى من اليهود المتدينين في أوروبا الشرقية. بعد ذلك، لجأ العديد من الناجين الذين عارضوا الصهيونية سابقاً إلى إسرائيل، وفقاً لموقع "كونفرزيشن".
وبعد تأسيس إسرائيل عقد ديفيد بن جوريون، أول رئيس وزراء، اتفاقاً مع زعماء المعسكرين لليهود الأرثوذكس. وما زال "الحريديم"، أو الأرثوذكس المتطرفون، يرفضون الاعتراف بشرعية الدولة اليهودية العلمانية.
وكانت بين الامتيازات التي منحتها الدولة لليهود "الحريديم"، إعفاؤها للشباب، الذين أرادوا دراسة النصوص الدينية، من التجنيد الاجباري. ولم يكن هذا يبدو ذا أهمية كبيرة، حيث أن عدد الشباب المعنيين لم يكن سوى بضع مئات، وفقاً لموقع "كونفرزيشن".
أين يعيش الحريديم؟
يعيش اليهود "الحريديم" عادة في مجتمعات منغلقة خاصة بهم. ولكل مجتمع معابد يهودية خاصة به، ومدرسة دينية، ومنظمات مجتمعية. ويتوزعون في مدينة بني براك ومنطقة ميا شعاريم في القدس.
تشمل هذه المجموعة السكانية عائلات لها جذور من بولندا ورومانيا والمغرب والعراق. ومنهم من يؤيد وجود إسرائيل، ومنهم من يعارضها ويحرق علمها. كما أن غالبية "الحريديم" الذين يعيشون في إسرائيل ليسوا صهاينة، لكنهم يعيشون هناك، لأن الدولة تدعمهم مادياً، وفقاً لموقع "كونفرزيشن".
ولأن معظم أشكال التعليم "العلماني" مرفوضة، فإن القليل من "الحريديم" يحملون شهادات مهنية. ويُخصص معظم الطلاب وقتهم لدراسة التوراة، فيما تتولى الأمهات دور المعيل داخل المنزل، وفق "ماي جويش ليرنيج".
ويفضل "الحريديم" نوعاً خاصاً من المدارس اليهودية يدعى يشيفاه (Yeshiva)، وهي نادراً ما تستخدم التكنولوجيا وبرامجها مثل التلفزيون، والحاسوب، والهاتف النقال.
ولأن معظم "الحريديم" يعيشون في أسر ذات عائل واحد مع أعداد كبيرة من الأطفال، فإن المجتمعات الحريدية تتميز عموماً بالفقر المدقع، وتتطلب إعانات مالية من الجمعيات الخيرية والحكومات من أجل ضمان العيش، وفقاً لموقع "كونفرزيشن".
ومع ذلك، في السنوات الأخيرة، ظهرت طبقة عليا حريدية جديدة، وازدهرت في أعمال الإدارة العليا وصناعة الماس. ويلتحق أطفال الطبقة العليا الحريدية بنفس المدرسة الدينية مثل أقرانهم الأقل حظاً، بينما يوجه آباؤهم جزءاً كبيراً من دخلهم إلى الجمعيات الخيرية والصناديق المجتمعية التي تدعم الشخصيات الحاخامية الكبرى ومشاريعهم.
وعندما يواجه اليهود "الحريديم" قرارات حياتية مهمة مثل مكان العيش ومن سيتزوجون وما إذا كانوا سيدرسون بدوام كامل أو يعملون، فإن اليهود "الحريديم" غالباً ما يستشيرون حاخاماتهم.
وارتفع عدد السكان اليهود المتشددين في إسرائيل إلى 1.28 مليون، أو 13.5% من إجمالي عدد السكان البالغ 9.45 مليون نسمة، وفقاً لتقرير إحصائي سنوي لعام 2023، نقله موقع "تايمز أوف إسرائيل".
وأظهرت البيانات الصادرة عن مكتب الإحصاء المركزي أنه مع معدل النمو الحالي للسكان اليهود المتشددين بنسبة 4%، وهي أعلى نسبة في أي مجموعة في إسرائيل، فإنهم سيشكلون 16% من إجمالي السكان بحلول نهاية العقد الجاري.
ويعيش أكثر من 40% من هؤلاء البالغ عددهم 1.28 مليون في مدينتين رئيسيتين هما القدس وبني براك، خارج تل أبيب. ويعيش 7% آخرون في بيت شيمش، ويعيش معظم الباقي في بلدات ومستوطنات ذات أغلبية يهودية متطرفة مثل موديعين، الواقعة على الطريق الواصل بين القدس وتل أبيب، وبيتار عيليت وإلعاد، أو في جيوب صغيرة في المدن الكبرى مثل أسدود وحيفا ورحوفوت، قرب تل أبيب.
مناهضة الصهيونية
عارض العديد من "الحريديم" بشكل أساسي قيام دولة يهودية علمانية وحديثة. وفي عام 1947، حاولت جماعة "أجودات يسرائيل" ثني الجمعية العامة للأمم المتحدة عن التصويت لصالح تقسيم فلسطين. وحالياً، يترشح أعضاء "أجودات"، التي تحولت لاحقاً إلى حزب "أجودات يسرائيل"، للانتخابات ويجلسون في الكنيست وشغلوا حقائب وزارية أخيراً.
الجماعات الحريدية بالصهيونية رأت عدواً خطيراً لها منذ انطلاق الحركة الصهيونية في نهايات القرن الـ19. واعتبر الحريديم أن الصهيونية هي عبارة عن حركة علمانية تضم كفاراً بالدين يهدفون إلى إقامة دولة علمانية تتعارض مع أسس اليهودية. وتعاونوا مع قطاعات علمانية معارضة ضد الصهيونية في أوروبا في مطلع القرن العشرين، وفقاً للمركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية.
أما السبب الأساسي للمعارضة، فيعود إلى اعتقاد أعضاء "أجودات إسرائيل" بأن المسيح المنتظر والمنقذ (المخلص) لم يأت بعد، وعند مجيئه سيُجمع الشتات اليهودي وتقوم الدولة اليهودية وفق أسس الشريعة اليهودية. وبالنسبة لهم فإن إقامة اسرائيل هي تقريب موعد الخلاص، وهذا مخالف للأصول ويعتبر بنظرهم خطيئة مطلقة، وفقاً للمركز.
ولم يعترف "الحريديم" بمؤسسات "الييشوف" (الوجود اليهودي في فلسطين) في فترة الانتداب البريطاني بفلسطين. وقدموا اعتراضاتهم أمام هيئات ومؤسسات الانتداب البريطاني ضد الييشوف والصهيونية من منطلق قيام الصهيونية بفرض مشاريعها على اليهود وعلى الواقع في فلسطين.
وحاول عدد من أعضاء "أجودات يسرائيل" الاتصال بزعماء عرب وفلسطينيين خلال فترة الانتداب للحيلولة دون تحقيق الحلم الصهيوني، وفقاً للمركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية.
ولكن بعد العام 1948، حصل تحول في أوساط "أجودات يسرائيل"، إذ تقرب إلى التيارات الصهيونية وشارك في الحياة السياسية والاقتصادية للمجتمع الإسرائيلي المكون حديثاً.
جدل التجنيد الإجباري
خلافاً لمعظم الإسرائيليين، الذين تعتبر الخدمة العسكرية إلزامية بالنسبة لهم، تم إعفاء "الحريديم" من التجنيد بدعوى التفرغ للتركيز على الدراسة الدينية. كما أنهم يتلقون إعانات مالية كبيرة من الدولة للحفاظ على نظام تعليمي مستقل يتجنّب الرياضيات والعلوم الدّقيقة، ويكتفي بدراسة التوراة والكتب اليهودية الدينية المقدسة فقط، وفق موقع "فاثوم جورنال" الإسرائيلي.
ومع استمرار الحرب الإسرائيلية على غزة واستدعاء جنود الاحتياط الإسرائيليين للخدمة لفترات طويلة أو إضافية، اشتدّ الخلاف مرّة أخرى بشأن الإعفاءات العسكرية ليهود "الحريديم".
ويعارض 7 من كل 10 يهود إسرائيليين الإعفاء الشامل من التجنيد. ويرفض المتشددون خطط الحكومة القاضية إلى رفع الخدمة العسكرية للرجال إلى 3 سنوات ومضاعفة واجبات جنود الاحتياط إلى 42 يوماً سنوياً خلال حالات الطوارئ.
وفي عام 1998، قضت المحكمة الاسرائيلية العليا بأن وزير الدفاع ليس له الحق في إعفاء يهود "الحريديم" من الخدمة العسكرية وطلبت من الحكومة إيجاد طرق لتجنيدهم.
وفي عام 2014، أصدرت حكومة يمين الوسط برئاسة بنيامين نتنياهو قانوناً يهدف إلى جعل 60% من رجال "الحريديم" يشاركون في الخدمة العسكرية في غضون 3 سنوات. لكن انتخابات عام 2015 أعادت الأحزاب الحريدية إلى السلطة، وتم التخلي فعلياً عن التنفيذ.
ومنذ ذلك الحين، أصبحت الأحزاب الحريدية أكثر قوة مع نمو عدد سكانها. ومع ذلك، أوضحت المحكمة العليا أنه بحلول نهاية مارس 2024، تحتاج الحكومة إما إلى تجنيد "الحريديم"، أو يتعين على الهيئة التشريعية أن تضع قانوناً جديداً لإعفاءهم، وفق "تايمز أوف إسرائيل".
ودعا زعيم المعارضة الإسرائيلية يائير لبيد إلى تجنيد اليهود المتدينين "الحريديم"، في خضم الحرب التي تخوضها إسرائيل على غزة. وأضاف: "نحن جميعاً نحمل العبء نفسه، ومن لم يتجندوا لن يحصلوا على أموال من الدولة".
وتابع أنه إذا تم تجنيد 66 ألف شاب من "الحريديم"، فإن الجيش سيحصل على 105 كتائب جديدة ضرورية لأمن إسرائيل، وفق "تايمز أوف إسرائيل".
وقال لبيد إن "الجيش الإسرائيلي قد استنفذ طاقته إلى أقصى الحدود"، مؤكداً أنه "إذا كان هناك تصعيد في الشمال، فلن يكون هناك ما يكفي من الجنود للتعامل معه"، ووصف النقاش بشأن قانون التجنيد بأنه "لم يعد مجرد نقاش أيديولوجي، ولكنه نقاش وجودي".
وذكر أن أعضاء الطائفة الأرثوذكسية المتطرفة، سيجدون صعوبة في التكيف مع الحياة خارج إسرائيل، وذلك في رده على إعلان الحاخام الأكبر لليهود السفارديم، يتسحاق يوسف، بأن "الحريديم سيهاجرون من إسرائيل إذا تم تجنيدهم".
وذكر لبيد: "إذا ذهب الحريديم إلى الخارج، فسيجدون أن اليهود المتشددين هناك يعملون من أجل لقمة العيش، ولا يحلمون حتى بأن أحداً سيمولهم".
وكان يتسحاق يوسف قال في تصريحات إعلامية بأنه لا يجوز تجنيد أولئك الذين يتعلمون التوراة "تحت أي ظرف من الظروف"، وأنه إذا تم تجنيد طلاب المدارس الدينية قسراً، فإن الحريديم سوف "يسافرون إلى الخارج".
وأكد: "بدون التوراة، بدون الكليات، بدون المدارس الدينية، لن يحقق الجيش أي نجاح".