"شفاه حمراء.. لسان أخضر" عن مدن الهامش في الصين

جديد الكاتب الصيني مو يان الحائز جائزة نوبل للأدب 2012

time reading iconدقائق القراءة - 9
الكاتب الصيني مو يان الحائز جائزة نوبل للأدب عام 2012. 15 مايو 2019 - AFP
الكاتب الصيني مو يان الحائز جائزة نوبل للأدب عام 2012. 15 مايو 2019 - AFP
الدار البيضاء-مبارك حسني

 "مهما ارتفع الجبل وسمق، توجد دائماً طيور تعبُره؛ ومهما كانت الشبكة ضيّقة، هناك أسماك تتسلل من عيونها".

بسخرية أدبية عميقة، وبعد إصدار نحو 20 كتاباً في الرواية والقصّة، يكتب الأديب الصيني مو يان، ومعنى اسمه الشخص الذي لا يتكلم، عن تأثير فوزه بأرفع الجوائز الأدبية على منطقته الصينية البعيدة، التي لا يعرفها أحد، أو يعرفها فقط من قرأوا له من قبل، أو شاهدوا الفيلم الصيني الشهير المأخوذ عن إحدى رواياته، "السُرغوم الأحمر" (الذرة الرفيعة الحمراء) للمخرج زانج يمو. 

هي ليست المرّة الأولى التي تكون مدينة كاومي وضواحيها الفلاحية، مكان إبداعه القصصي والروائي، بل هي حاضرة وفاعلة في معظم مؤلفاته، في وفاء نادر من كاتب لمسقط رأسه الذي جعله ينال الشهرة. وهو ما يؤكد التعبير الذي مفاده أن المحلية هي السبيل الوحيد المؤدّي إلى العالمية بالنسبة للأديب. 

يكتب مو يان عن بلدته في مقاطعة كاومي، حيث ولد سنة 1955، وعمله لسنوات طويلة في حقول ومصانع القطن هناك، ثم انخرط في الجيش كجندي لفترة، قبل أن يتفرّغ للكتابة. 

إنه الكاتب الصيني الذي يستطيع أن يوصل أدب بلاده إلى كل بقاع العالم، الصين التاريخية والصين الحالية. قال الكاتب الألماني مارتن فالسر: "إذا كنت تريد التحدّث عن الصين، فإن قراءة مو يان ضرورية." (عن موقع أدب العالم worldliteraturetoday.org). 

في كتابه الي صدرت ترجمته الفرنسية عام 2024، تحت عنوان "شفاه حمراء، لسان أخضر"، عن دار "لوسوي"، هناك رصد متعدّد للشخصيات والمحكيات، عن كيفية استقبال سكان بلدته له بعد أن صار ذائع الصيت، وامتلك ثروة مالية منحته إياها أكاديمية الجائزة السويدية ومبيعات كتبه. 

في هذا الإطار يفسّر الكاتب سبب التسمية الصينية للكتاب، " تَينع الزهور متأخرة"، بِكون التأخير هنا أمر إيجابي، فهو مديح للأشخاص الذين يضطرون إلى إخفاء مواهبهم منذ سن مبكرة، لكنهم يتألقون في النصف الثاني من حياتهم، الأمر الذي حدث له شخصياً.  

لا أحد يعرف أنك كلب على الإنترنت  

يتألف الكتاب من 12 فصلاً، كل فصل يحكي قصّة قصيرة تتناول أحد معارف الكاتب من عائلته أو جيرانه أو زملاء سابقين، في المدرسة أو المصنع والجيش. 

مشاهد مضحكة، مأساوية أو مؤثرة، تبيّن تناقضات الانسان والمجتمع. لا يكتفي الكاتب بالحكي، بل يتدخل كشخصية واقعية فاعلة في الأحداث، من خلال الذكريات والمواقف، أو كشخصية كاتب يقف على ما حدث من تغيير "متأخر"، سيكون منعدماً أو غير ذي أثر، لو لم يكن أديباً يوظفه في نصوصه. 

إنها صورة من الداخل تسمو بالبلدة إلى مستوى "بلدة أدبية" خالصة، على غرار الرواية الأميركية اللاتينية، التي تأثّر بها مو يان، الذي يقول في كتابه: "أنا آخر، يفعل ما أطلبه منه، ولا يستطيع اتخاذ القرارات بمفرده. أنا أراقب وأسجّل عملية تفاعل "مو " مع الناس".

في الواقع إنه عين ما يقوم به في فصوله الـ12: في منجل زوو الأعسر، والأشخاص الذين ينضجون متأخرين، واللص الذي يشير إلى الزهور، وانتظار موسى، والشاعر كيم هيب، وابن عم نينغ سايي، وعيون صاحب الأرض، الحمَّام والسرير الأحمر، والسلام في العالم، وشفاه حمراء ولسان أخضر، والمشاعل والصفّارات.

 هي قصص إنسانية متداخلة ومتقاطعة المصائر، تُظهر في المقام الأوّل قسوة الإنسان على أخيه الانسان، من دون قصد أحياناً، ومع ذلك تفعل فعلها في حياة من يعيشون هذه القسوة.

 في قصصه هناك أب يكسر يد ابنه بسبب جرحه لطفل آخر، ولكي يعوّض فعلة ابنه، يتزوّج في نهاية المطاف أخت الطفل المجروح. هناك امرأة ولدت بأصابع ستة في القدمين، ما جعلها عرضة للسخرية، ولم تقبل إجراء عملية جراحية، ما سيجعلها تعيش حياة عزلة وكره.

 هناك الشخص الذي اختفى عن عائلته طيلة ثلاثين سنة، أمضتها زوجته في إلصاق صورته كمفقود، على كل الشاحنات التي تعبُر البلدة بلا كلل ولا ملل. 

 الصين الحديثة

تمنحنا القصص في المقام الثاني، مشهداً بانورامياً عاماً، عن تطوّر الصين الحديثة طيلة الخمسين سنة التي أعقبت ثورة ماو تسي تونغ (1949)، ومآسي الثورة الثقافية سنة 1966، وما تلاها. 

 بدءاً من النصّ الأوّل الذي يتحدث عن حدّاد في ورشته رفقة معاونيه، والكاتب الذي يذكر بأنه في طفولته الأولى كان اشتغل مكلّفاً بمنفاخ النار الكبير، ونعته من طرف السلطة آنذاك بكونه غير متعاون، وتطوّر الأمور في النصوص التالية، وصولاً إلى غزو الإنترنت والهواتف الذكية لكل شيء في حياة الفلاحين والمزارعين والصيادين والحرفيين، ما قلب حياتهم رأساً على عقب. 

نقتطف من قصّة "شفاه حمراء، لسان أخضر" ما يلي : "من ولدوا في الخمسينيات من القرن الماضي، وشهدوا العمل الجماعي للكومونات الشعبية، مرّوا في الواقع بتغييرات هائلة. في عصر الإنترنت خصوصاً، أصبح معظم المزارعين من مستخدمي الهواتف الذكية، كما أصبحوا أسماكاً في بحر الإنترنت، من دون أي مساعدة تقريباً. والقول المأثور لا أحد يعرف أنك كلب على الإنترنت، لا يزال قابلاً للتطبيق".

كتابة بضمير المتكلم 

حين يذكر مو يان أثر الإنترنت وما أحدثه من انقلاب جذري في حياة القرويين، الذين لم يغادروا القرية قط، كما لا يعرفون العالم خارج الصين بشكل واسع، ما دام الويب غير مسموح به هناك، فهو يهدف إلى تصوير الصراع مع التقاليد العتيقة والسلوكيات العقائدية للصينيين. 

بشكل غير مباشر، نقف على التغيير العميق وعلى الثبات والإخلاص للثقافة الأصلية في الوقت نفسه. وهو ما يسمح باختلاق وضعيات ساخرة جداً وفريدة الوقع، مع إيراد خلفيات واعظة من الحِكَم الصينية ذات البعد الإنساني، تستعير أحياناً من موروث الأساطير والحكايات القديمة.

 نقرأ للكاتب : "مهما ارتفع الجبل وسمق، توجد دائماً طيور تعبُره؛ ومهما كانت الشبكة ضيقة، هناك أسماك تتسلل من عيونها. حسناً، ها هو البصل الأخضر مع الصلصة، السماء كبيرة، والأرض كبيرة، لكن شهيتنا أكبر، نحن نحب والدنا، ونحب أمنا، ولكن ليس بقدر العيد، هيا بنا نأكل يا أخي"..

يضيف: "تقول الأسطورة أنه بمجرد أن يرى الثعبان طفلاً، فإنه يشرع في حساب عدد شعرات رأسه، وإذا كان الرقم صحيحاً، يخطف الثعبان روحه ، لذا عند وجود الثعبان، عليك أن تجعل شعرك فوضوياً وبسرعة."

الكتاب بهذه الصيغة رحلة تتضمن زيارات عدّة هنا وهناك، وكل زيارة تذكّر مو يان بما فعله وبرفقة من، وبالتالي يتّحد الخيال مع الواقع والذكرى والتاريخ.

 يتأمل الكاتب نفسه في جل مراحل حياته قبل أن تزهر وتعطي ثماراً. يتكلم أخيراً معاكساً اسمه الذي أطلق عليه. فلا خوف الآن، بعد أن انتفت أسبابه السابقة. يتكلم كتابة، بضمير المتكلم. 

 قصّة تنمو مع الشخصيات

إنها كتابة لها خصائص اللغة الصينية، والثقافة المجتمعية الصينية المتّسمة بشيء من التعقيد، الذي لا بد من مقاربته إذا ما شئنا فهم هذا البلد العظيم. وذلك بدءاً من الأسماء الشخصية. وهذا أمر يلح عليه الكاتب حين تقديمه لشخصياته. 

إنها تحمل أسماء أولى ثم أسماء مستعارة وأخرى بديلة، بحيث يجب بذل مجهود لتذكرها خلال القراءة. ثم هنا علاقات القرابة العائلية، التي لا تشبه ما نحن عليه في مجتمعاتنا العربية. هناك العمومة والخؤولة متنوّعة ومركّبة، يزيد من تعقيدها التخطيط العائلي الذي فرضته الثورة للحدّ من النمو الديموغرافي. 

قراءة قصّة لمو يان، تفرض إذن غوصاً متشاكلاً ومتشعباً ما بين الوقائع الواضحة، والشخصيات المبهمة، والأساطير والمُثل التي لا ترد فقط للاستدلال، بل تؤثر في وقائع محدّدة وحاسمة فيها أحياناً. 

يبوح في حوار مع موقع كتاب الصين: "أقول إن القصص تنمو مع نمو الناس. يجب على الكُتّاب دائماً الحفاظ على اتصال وثيق بالحياة اليومية، من أجل مادة أدبية أكثر حيوية وتأثيراً وإقناعاً".

تصنيفات

قصص قد تهمك