تعاظم اهتمام الأدباء الفرنسيين الكبار، الذين أصبحوا من أعلام الأدب العالمي، بالشرق العربي وعوالمه، عقب حملة نابليون على مصر، كأنما فُتح باب الأسرار العظيمة. إذ يمثّل لهم الشرق حلماً يجب تحقيقه وعيشه على أرض الواقع، بكل ما يُمني النفس من متع وإلهام.
سافر إليه بعضهم من أجل استعادة روح المسيحية الأصلية في فلسطين، التي تحضر بقوة وجلال، وبعضهم من أجل الغوص في مباهج ألف ليلة وليلة، وثالث من أجل التعرّف على الآخر المختلف. لكنهم جميعاً استعادوا التجربة بالكتابة عنها.
شُدّت إلى الشرق الرحال التي كانت تدوم لشهور طويلة، عبر البحر والبر، من أجل اكتشاف هذه الأسرار، التي لم تكن سوى حياة مختلفة، ومعمار فريد، وثقافة مغايرة. كانت كتابات "عفوية" بما أنها أدب مذكّرات في الأصل، وصارت روائع أدبية ووثائق مرجعية.
نحو الشرق العربي
هي أربعة كتب تتناول "رحلة إلى الشرق العربي" تحديداً، صدرت تباعاً للمرة الأولى في القرن التاسع عشر، وصدر في طبعات متعدّدة منذ ذلك الوقت، آخرها سنة 2006. رحلة شاتوبريان صدرت عن (دار مانيسيوس)، أما رحلة لامارتين، فصدرت عن (دار غاليمار) بباريس سنة 2011، ورحلة جيرار دو نرفال سنة 2008، وأخيرا رحلة غوستاف فلوبير عام 2006.
شاتوبريان: ذهبت كي أبحث عن الصور
كان أول هؤلاء الكُتّاب، الشاعر روني دو شاتوبريان، صاحب رائعة "مذكرات من وراء اللحد". قام برحلته سنة 1806، وشملت القدس في فلسطين ومصر، ونشرها سنة 1811.
يقول في المقدمة: "لم أسافر لأكتب كتابي هذا، كان لي هدف آخر، كنت أبحث عن الصور، هذا كل ما في الأمر".
يقصد شاتوبريان بالصور، تلك التي توحي بها الأناجيل، وحاول التعرّف على أمكنتها، والصور التي صادفت عينيه. انفتح أمامه عالم غريب، والتقى أمماً كان يجهلها، لديها عادات مختلفة. كما رأى حيوانات ونباتات من نوع آخر، سماء جديدة وطبيعة جديدة، كما باح بذلك مسروراً في الجزء الثاني من الطبعة الأولى للكتاب، المنشورة في موقع المكتبة الوطنية الفرنسية.
وما يسترعي انتباهنا كثيراً، هو المشاهد الفلسطينية التي يحكي عنها في ظل الحكم العثماني. يقول في الصفحة 78: "نتعرّف هناك على أحكام القرآن الخاصة بوجوب الكرم، وفضل الضيافة التي استعارها الأتراك من العرب؛ لكن أُخوة العمامة هذه لا تتجاوز عتبة الميناء، فهذا العبد الذي يشرب القهوة مع مضيفه، سيقطع هذا المُضيف نفسه رقبته عند المغادرة".
فلسطين أرض المعجزات
ثم هناك صفحات عن مدينة يافا، التي تعرّضت للحروب والحصار مرّات عدّة، مستعيداً جنانها الغنّاء، وألوان الزهور والفواكه وغزارة الماء. والشيء نفسه في جنين وغزة وجبل الكرمل.
سيلاقي الشاعر ضالته الروحانية القوية في القدس (التي خصّص لها فصولاً طويلة مُفصلة)، وبيت لحم وأريحا ونهر الأردن، بمساعدة الرهبان والعرب، وما يتطلب ذلك من أداء حق المرور لشيوخ القبائل ومحاربة قطّاع الطرق.
يكتب: "فلسطين أرضاً صنعتها المعجزات: الشمس القوية، والنسر الجريء، وشجرة التين العقيمة، الشعر بكامله، وكل صور الكتاب المقدّس. كل اسم يحتوي على لغز، كل كهف يعلن المستقبل، كل قمّة تردّد كلام نبي" ص 177.
صفحات طويلة من المغامرات والعِبر والوصف الدقيق حول بلاد العرب. تتراوح ما بين التقدير والمبالغة، سلباً أو إيجاباً. هي وجهة نظر مسيحي مؤمن وعسكري، تتغلب عليه في آخر الأمر، صفته كشاعر فصيح، فتفتح له آفاق الانبهار الخالص.
لامارتين: الشرق قصيدة منقوشة في الصخر
تأثّراً بما كتبه شاتوبريان، قام الشاعر ألفونس دو لامارتين برحلته إلى الشرق، على مدى سنتين 1832 و1833. وصف في مقدمته التحذيرية بأن كتابه قصيدة إلى الشرق أكثر منه مذكرات. والحق أنه نص عاشق جميل بلغته وصوره وإيحاءاته. غطّت رحلته لبنان وسوريا وفلسطين.
يقول في الصفحة 158 بعد أن شارفت الباخرة على شواطئ لبنان: "سرّ وفرح عميق يملآن قلبي. لم أستطع أن أحيد بنظري عن مرأى جبل لبنان". جبال يكتب عنها صفحات لامعة عن جمالها الخاص، الذي لم يجده في جبال الألب الفرنسية. كتب ذلك وهو يقيم في بيروت، ثم عند الدروز وفي سوريا.
هنا وجد الشعر منقوشاً في الصخر والوادي، والروح الربانية تسقي كل شيء، متحسراً على كونه فقط مسقي في أوروبا، بحليب طبيعة لطيفة ومتحضّرة، لكنها فاقدة ألوانها. وحين وصل إلى فلسطين، في الناصرية والجليل وعند نهر الأردن، ولدت في داخله انطباعات جديدة ومختلفة، عن تلك التي أوحت بها رحلته في البداية: "سافرت بالعين، بالفكر والروح، وها أنا أسافر بالروح والقلب".
في الكتاب وصف لكل شيء، ما يجول في الأزقة، وما يحوم في القصور والرياض التي أقام فيها وزارها، بدعوة من الأمراء والحكّام، مع الاستعانة بصفحات من التاريخ أو ما يقاربه.
في ثنايا ذلك قوي إيمانه أكثر وبشكل أعمق. عن القدس قال في الصفحة 438: "أنا، الشاعر المتواضع في زمن الانحطاط والصمت، كنت سأختار، لو عشت في القدس، مكانَ إقامتي وحَجرَ راحتي، حيث اختار داوود مكانه. وهو أجمل منظر للضفة وفلسطين والجليل".
جيرار دو نيرفال: الشرق مشروع عظيم
على عكس شاتوبريان ولامارتين، تمثّل دونيرفال الشرق العربي دون تحيّز، الأمر الذي جعل من كتابه "رحلة الشرق"، مجموعة حكايات عما شاهده وعاشه، تطبيقاً لرغبته الأولى في اكتشافه، كما هو في واقع أمره.
وكان يتفادى استعمال رسائل التوصية لدى الحاكمين من لدن أشخاص نافذين، لان ذلك سيحرمه من حرية رؤية ما يريده. وكان يشفق على الأوروبيين الذي يهابون الدخول إلى المقاهي أو "التآخي مع العرب أو شرب القهوة مع أحدهم أمام باب منزله".
بدأ اكتشافه أولاً في القاهرة. ومنها شرع يصف ويعَرِّف. زواج قبطي، الدراويش، المساجد والعمارة، جولات في الأزبكية وحي الموسكي وشبرا، ريح الخماسين، غناء العلامات، وأخيراً الأهرامات التي خصّها بفصل مستقل.
من مصر إلى بيروت التي تجوّل فيها، متحدثاً عن خصائصها ومعمارها وناسها، وفنادقها، دروبها، وقصر الباشا، والميناء حيث المشهد الرائع.. فضلاً عن الجمال، والرشاقة التي لا توصف لمدن الشرق على شواطئ البحار، وصور الحياة المتلألئة، وأجمل الأجناس البشرية، والأزياء، والقوارب التي تتهادى على الأمواج اللازوردية.
في فصل "الدروز والموارنة " في جبل لبنان، لا بد أن تستوقف القارئ هذا الجملة:" نسأل أحياناً كيف تمكّن شعب لبنان من تأمين تعاطف وإيمان العديد من الشعوب من مختلف الديانات على أرضه" ص 306.
في بيروت والجبل عاش دو نيرفال، وصادق عليه القوم وأناس عاديين، وحاول الزواج بفتاة درزية، وروى كل ذلك على شكل حكاية حقيقية وصادقة، بطلها كاتب تحوّل إلى شخصية تبحث عن ضوء لروحها، فوجدها في الشرق.
كوستاف فلوبير: ولدت كي أعيش هناك
ذات الرغبة دفعت صاحب رواية "مدام بوفاري إلى كتابة "رحلة إلى الشرق"، بعد أن زاره رفقة صديق له سنة 1849، وعاش تجربة الشرق بكل ما في الكلمة من معنى. يقول:" سأقوم برحلة إلى الشرق. لقد ولدت كي أعيش هناك".
ومن المناطق التي حطّ الرحال فيها مصر وفلسطين، إذ خصّص لهما فصلين كاملين. الكتاب عبارة عن مذكرات ورؤوس أقلام وملاحظات وأوصاف؛ جمل مُتقطّعة أخذت على حين غرة، على أساس أن توظَّف لاحقاً في قصص وروايات.
لكن واقعيتها ودقة التقاطها للعابر، منحها أهمية أدبية خالصة. الرمال، والأهرامات، وأبو الهول، كلها رمادية اللون ومغمورة باللون الوردي الرائع؛ السماء زرقاء بالكامل، والنسور تحوم ببطء حول قمة الأهرامات.
نتوقّف أمام أبو الهول، ينظر إلينا بطريقة مرعبة، وأخشى أن يدوخ رأسي، فأحاول السيطرة على مشاعري." بمثل هذه الجمل يصف كل موقع زاره، مركّزاً على الألوان وسحنات الناس، وأثر الشمس ونورها على السماء والمساجد والدروب، مانحا على طريقة رسامي المشاهد الانطباعية الحيّة.
في فلسطين، وجد نفسه أمام تجربة الإيمان التي لم يكن قريباً منها من قبل. هناك أصيب بنوع من الحيرة حين زار أديرة في حيفا وبحيرة طبرية والبحر الميت والقدس ورام الله، المكان الأقدس حيث شفافية الألوان. ففي كل مرة، كان لا يتورع عن نسخ ما رآه، مُقارناً الواقع أمامه بما سبق أن قرأه عنه.
كان الشرق بالنسبة له سؤالاً كبيراً وجّهه إلى نفسه، إذ لم يكن يغادر جُبّة الكاتب، وهو يسافر من مدينة إلى أخرى. لكن هناك فرق كبير بينهما. حِين كان الأول يزاوج بين العيش والكتابة إلى حد أنه غيّب الفاصل بينهما، فأصيب بداء الكآبة، كان فلوبير يروم الكتابة قبل كل شيء، وتدبيج النص الرائع غير المسبوق.