يبدو أن المؤلف النمساوي الشاب تونيو شاخنجر (31 عاماً)، الحائز على جائزة الكتاب الألماني 2023. عن روايته "العمر الحقيقي"، يحبّ الكتابة عن عوالم الألعاب أكثر من أي شيء آخر، بل يمثّل عمله الفائز "انعكاساً أدبياً لعالم ألعاب الكمبيوتر". بحسب لجنة تحكيم الجائزة.
لكنه يرقى بها إلى مستوى من التوظيف يجعله علامة دالة، حسب رأيه، على ميزات مجتمع يسود في ظاهره الرخاء، وتختفي في باطنه عوامل التعاسة، أو على الأقلّ ما يجعل المشاعر تحار بين عدم الرضا والسعادة.
في روايته الجديدة الفائزة "العمر الحقيقي"، عالم اللعب هو مجاله، فقد اختار هذه المرّة شخصية بطل بارع في الألعاب الإلكترونية على مستوى عالمي، مرتبط بالفيديو وبالشبكة العنكبوتية.
اللعب أم الأدب؟
نقطة القوّة المميّزة في رواية شاخنجر الفائزة، والجديد الذي جاءت به إلى عالم الكتابة الأدبية، هو توظيفها لعالم الألعاب الإلكترونية. وهو ما أشار إليه موقع جائزة الكتاب الألماني، معتبراً إياه مبرراً أساسياً لمنح الجائزة للكاتب.
يرى شاخنجر وجود علاقة بين اللعب والأدب، ويشرحها قائلاً "أعتقد أن هناك بعض أوجه التشابه، وخصوصاً أنك في كلتا الحالتين تقضي وقتاً في هذين العالمين".
يضيف: "اللعبة لا تتعلق بالفوز أو الخسارة أو العنف، بل تتعلق بالانغماس. ألعاب الكمبيوتر غامرة للغاية، وبالتالي يمكن أن تكون أكثر تسلية من الأدب". إن التسلية هنا هي بيت القصيد، وهي ديدن الكاتب ووسيلته للتعبير.
"ليس مثلك"
الكاتب الشاب المولود في الهند عام 1992، لأب دبلوماسي نمساوي، وأم ذات أصول مكسيكية وإكوادورية، نشر روايته الأولى عام 2019، بعنوان "ليس مثلك"، روى فيها مسيرة لاعب كرة قدم محترف من مستوى عال، يحصل على أجر كبير ككل نجوم الكرة، متزوج وله وطفلان، يجول سائقاً سيارة "بوغاتي" الفخمة، ينجذب بسهولة نحو النساء، وتربطه علاقة عاطفية بحبيبة طفولته.
لكن عملية الغوص في حالته الذهنية والنفسية، عبر الكتابة التي يقوم بها الكاتب، ترصد لديه إحساساً باطنياً بافتقاده لشيء ما يجعله لا يشعر بالسعادة، مما لا ينفك يُنَغّص عليه التمتّع بحياته كما يجب، وكما يُمنِّي نفسه بها.
يتحّدث الكاتب في الوقت ذاته عن عالم كرة القدم الاحترافية، باعتباره نظاماً اقتصادياً لا يرحم، يتم فيه تحويل اللاعبين إلى سلع. وبالتالي فكل الوجاهة الظاهرية، والأضواء المسلطة في الملاعب وبين الجماهير، وفي الإعلام الرياضي، لا تخدم بالأساس، وفي العمق أبطال الكرة.
المرور الصعب نحو الرشد
إنه تلميذ مراهق تتمّ مرافقته منذ سن العاشرة، في فترة التحوّلات الحياتية الكبرى، التي تقود الفرد من مرحلة المراهقة إلى مرحلة الرشد، ولكن في المرحلة التي سبقت تفشّي وباء كورونا وما تلاها من حجر صحي. ويمكن القول وبكل اقتناع تبعاً لهذه المعطيات الأوّلية، بأن هذه الرواية هي بنت عصرها بامتياز.
البطل المراهق تيل كوركودا، هو شخصية أدبية لا يمكن تصوّرها بهذه المواصفات في زمن غير زمننا الحالي. لم يبحث الكاتب عما هو ناءٍ من عالمه المحيط به، هو الحديث السن، ولم يسعَ إلى التنظير أو اتّباع كتابة مليئة بالفخفخة، بل ولم يختر الاهتمام بالقضايا الكبرى المُستجدّة في المجتمع والعالم، التي تثير شهية الناشرين حالياً.
فالرواية تبتعد بنا كل البعد عن الشخصيات المتعالية والمسكونة بأسئلة العالم، بل تهتم فقط بما تودّ تحقيقه، والوصول إليه وما يجلب بعض السعادة إن أمكن ذلك.
هنا كلام لصيق بالواقع بما هو أحداث ووقائع في محيط محدّد، عبر فصول ثمانية مفصّلة بطول 360 صفحة، تروي ما جرى خلال مستويات دراسية معيّنة، في مؤسسة تعليمية داخلية مخصّصة لأبناء النخبة في مدينة فيينا بالنمسا (مشابهة لمؤسسة تعليمية نخبوية درس بها المؤلف).
مبادئ نازية
يتخرّج التلامذة من تلك المدرسة في مجالي الإدارة والأعمال، ليصيروا قادة المستقبل، بعد أن يتلقوا تعليماً محافظاً ومتزمتاً، يرتكز على المثل التعليمية البرجوازية المتوارثة، المتمسكة بالطاعة العمياء والانضباط الاستبدادي، وذلك من قِبل أساتذة من زمن آخر، مفارقين لما يحدث ويستجدّ كل يوم من حولهم. وأبرزهم أستاذ الآداب الألمانية دولينار، الذي حصل على مبادئه من والدته، وهي حصلت عليها من كتاب نازي.
وتبعاً لذلك، ليس غريباً أن يفرض تلقيناً صارماً لا يقبل الاختلاف والمعارضة. فهو يفعل كل شيء كي يُبعد التلامذة عن حب الأدب بكل حرية، باختياره تدريس الآداب الكلاسيكية على نحو يثير الخوف والرهبة لدى المتعلمّين.
هذا الأمر جعل البطل لا يجد ذاته فيها، فيسأل ما الذي يمكن أن نتعلمه هنا ويكون مفيداً للحياة؟ هل هو رفقة زملاء دراسة في سن العاشرة، يتخيّرون طريق ارتداء ملابس، سيلتزمون بها نفسها بقية حياتهم؟
أم أولاد يرتدون قمصان البولو الخضراء، وفتيات يرتدين الجينز الأبيض، سيتحولون إلى أشخاص كتب عنهم أن ما هو مميّز فيهم هو كونهم "مجانين ذو وجه برجوازي"، وسينتجون العنف ذاته فيما بعد؟
ومن ثم يطرح استفساره الأهم، هل يمكن الحصول على السعادة عبر رفقتهم؟ بالطبع لا، ما دامت شروط تحقيقها غير موجودة، لطغيان الكليشيهات في النمسا، كما اعتبرها المؤلف في حوار مع الصحيفة النمساوية "ديرستاندراد"، وهو ما أدى إلى الكثير من التعاليق والردود، جعلتْ منه أديباً منخرطا في النقاش السياسي والمجتمعي العام، وإن لم يٌرِد ذلك.
أسلوب ساخر
ومع ذلك فالمسألة كلها أدب قبل كل شيء، هدفه تحقيق الأثر الجمالي لدى القارئ. يتّفق العديد من نقّاد الأدب الألمان، على أن الرواية مقروءة بسهولة وغير متعبة، وهي كلاسيكية الشكل والبناء السردي. وتتوسّل إلى ذلك بتوظيف السخرية من الموضوعات الجادّة، كالممارسة السياسية وبعض الاهتمامات الجماعية في النمسا، فضلاً عن التجاذبات بين الأحزاب مثلاً، ناقداً ومتهكماً.
شاخنجر وظّف السخرية مع إيراد العبارات الصادمة بواقعيتها الفجّة والمباشرة. وهو يصف زميلاً له في الدراسة مثلاً بأن له "أنف من تلك الأنوف الطويلة الضيّقة، التي تجعل الأغنياء أحياناً يبدون وكأنهم خيول جميلة".
أسلوب الدعابة اللاذعة الممزوجة بقوة الملاحظة، وإبراز التناقضات في طرح الأفكار. إنه سرد ينخرط بآليات التشويق والتنويع، كما هو موجود في الأدب الساخر الذي لا يودّ أن يُحدث ثورة في الكتابة، بقدر ما يسعى إلى أن يشدّ قارئه حتى نقطة النهاية.
ما يبقى في آخر الأمر، بعضاً من متعة القراءة، واطلاع على الآراء الشخصية للكاتب الشاب، المُضمّنة ما بين واقعة سردية وأخرى.
عالم ألعاب الفيديو
يصوّر تونيو شاخنجر بسخرية خفيّة السياق السياسي والاجتماعي الحالي، حيث ينبع العنف الخام من أفضل التلامذة. ويمثل عالم ألعاب الفيديو ملجأ وبديلاً ومكاناً للخيال والحرية. إن مسألة الترسيخ الاجتماعي للأدب يعالجها نص ذو رواية محكمة ومعاصرة للغاية.
فالبطل تيل، الذي لم يجد ضالته فيما يحيط في الداخلية التعليمية، ارتكن إلى ممارسة هوايته في مُقارَعَة خصوم افتراضيين في لعبة "عصور الإمبراطوريات" الشهيرة عالمياً، بنسختها الثانية.
اللعبة تعتمد من حيث المضمون على المعارك التاريخية التي خاضتها مختلف الحضارات المعروفة في القارات الخمس، ومن حيث الشكل على اللعب في الزمن الواقعي أو الحي. وخلالها يحقق الانتصارات الافتراضية التي مكّنت صاحبها من تحقيق بطولة عالمية.
رمزية اللعبة بالنسبة للبطل تتجلى في منحه مساحة تألق واستمتاع بعيداً عما ينغّص هناءة عيشه. ويقول في حواره مع صحيفة "ديرستاندارد"، "إنه مارس اللعبة نفسها، فهي جزء من الأشياء التي يعرفها، وبالتالي حضرت في لحظة الكتابة".
يضيف: "لعبت هذه اللعبة عندما كنت طفلاً، وأتذكّر ما كان يعنيه بالنسبة لي في ذلك الوقت، أن أتمكن من إعلاء شأن فارس محارب، تعرّفت إليه من خلال كتب الأطفال. ربما تكون هذه خطوة أولى نحو التجربة الجمالية".
وهكذا نقف على شهادة كاتب يجِد في لعبة إلكترونية طفولية، إن صحّ التعبير، صُمِّمتْ للترفيه وتزجية الوقت، معبراً نحو الجماليات بدَلَ الفنون الجميلة على سبيل المثال. ولكنه في الوقت ذاته، يرى بأنها تجربة لها علاقة مع الأدب.
مسارات ومستويات
لقد صيغت الرواية عبر هذين الخطّين: اتباع مسار حياة البطل تيل كوركودا، من جهة وانغماس في واقع مجتمعي يفرض إملاءاته، يجب تحمله ومسايرته، مع تجنّب الخسائر والنتائج السلبية ما أمكن. وهو ما يُشكّل في كل مرة مناسبة للاستفهام وإبداء الرأي.
وهكذا، يربط تيل علاقة صداقة مع زميل في المستوى الدراسي الثالث، وفي المستوى الرابع، يموت والده، وفي المستوى الخامس، يصير أحد أفضل لاعبي ألعاب الفيديو الهواة، وفي المستوى السادس، يقع في حب زميلة اسمها فيلي دون استجابة متبادلة، ويذهب إلى الحانات للمرّة الأولى في المستوى السابع.
لكن تيل يشارك في بطولات الألعاب الدولية، ويصبح أحد العشر الأوائل على المستوى العالمي، من دون علم أحد من المقرّبين منه. وفي المستوى الثامن، يرتبط أخيراً بفيلي، قبل تفشّي كورونا مباشرةً، ليتمكنا من العيش معا أثناء الحجر الصحي.
هي حكاية طفل يفترق علائقياً مع والدته ويموت والده، في توازٍ مع فترة عُمرية فاصلة، تنثال فيها الأحداث في الوقت الفعلي، جامعة ما بين سنوات الدراسة الأولى بأكملها والعلاقة مع الأصدقاء، والعلاقة مع العائلة، والانبهار بألعاب الكمبيوتر، واكتشاف الحب والتمرّد الشبابي.
لكن الرواية ليست تعليمية، على الرغم من ذلك كله، بل اجتماعية حسب قرار لجنة منح الجائزة. تصف بأدق التفاصيل، وهي كثيرة ومتنوّعة، ما يمور في المجتمع عبر بوابة فضاء مدرسي، يبدو مثل مجتمع مصغّر، تنعكس فيه عادات وثوابت وتحوّلات ما يحدث خارجَه.