الرياضيات والشعر.. معادلات متشابهة ومتداخلة

time reading iconدقائق القراءة - 6
الشاعر والباحث في علم الرياضيات وتاريخه الجزائري نذير طيّار - الشرق
الشاعر والباحث في علم الرياضيات وتاريخه الجزائري نذير طيّار - الشرق
الجزائر-عبد الرزاق بوكبة

ظهر في الجزائر "كتاب "الرياضيات لغة الكون: من القصيدة الشعرية إلى السعادة الزوجية" (2023)، وأثار جدلاً حول أسبقية جدوى الآداب على العلوم التجريبية والدقيقة، وفي مقدّمها الرياضيات.

انطلق المؤلف نذير طيّار (1967)، وهو أستاذ الرياضيات وتاريخها في جامعة قسنطينة، وشاعر وباحث لديه دواوين منشورة وجوائز وازنة، من داخل الشعر والرياضيات معاً، في رصد أوجه الشبه والاختلاف بينهما، وظهر ذلك في قصيدته الافتتاحية "ماذا أساوي لو هجرتهما معاً / صفراً كبيراً مثخناً بجراحي".

وما أعطى مصداقية لهذا البحث، أن مؤلفه نذير طيّار (1967)، هو شاعر لديه دواوين منشورة وجوائز وازنة، وهو باحث في الرياضيات، وأستاذ الرياضيات وتاريخها في جامعة قسنطينة.

أنسنة الأرقام

يبادر طيّار إلى اعتبار الرياضيات ثقافة أيضاً، وليست مجرد أرقام ومعادلات؛ مستنداً إلى قول الرياضياتي البريطاني جون ماكليش، بأن المعرفة الرياضية ليست شيئاً مستقلاً وقائماً بذاته، بل هي جزء من مجموع التفاعلات البشرية.

وأعطى الكاتب مثالاً على ذلك، انتعاش الرياضيات في ظل انتعاش الحضارة العربية الإسلامية، ما بين القرنين السابع والخامس عشر الميلاديين، في مقابل ضمورها أوروبياً في الفترة نفسها، في ظل تخلّف البشرية هناك؛ ثم وقع العكس تماماً، بعد الثورة الصناعية في الفضاء الأوروبي.

من هنا، يدعو الكاتب إلى إدراج تدريس تاريخ الرياضيات، في مختلف الأطوار التعليمية، حتى يرتبط ما هو علمي بما هو تاريخي وفكري وفلسفي، بما يرقى بالعقل العربي إلى الاستفادة من الرياضيات بصفتها نظريات وتطبيقات ميدانية، لها أثرها المباشر على المعيش.

وضرب مثالاً على ذلك، كيف استفاد الطب من الرياضيات؛ في زمن كورونا، من خلال الدوال الأسية المنمذجة، (الدالة الأسية هي قاعدة رياضية)، لتطوّر الإصابات بفيروس كورونا عبر العالم؛ وقدرتها العجيبة على التنبّؤ بمستقبل هذه الإصابات على المديين القريب والمتوسّط.

فخ المفاضلة

يحذّر الكاتب مما أسماه "فخ المفاضلة بين العلوم والفنون"، فالإنسان برأيه "ليس آلة حتى لا يحتاج إلا إلى التكنولوجيا فقط، إنه نسيج من نفس وعقل وقلب، وهو الحجر الأساس في كل تنمية وحضارة. وإن دراسة سلوكاته الفردية والاجتماعية ونفسيته الداخلية، وتفاعلاتها مع محيطها، هو أمر جوهري لا يمكن القفز فوقه".

ويتدارك قائلاً: "إن التداخل بين العلوم والفنون، لا ينبغي أن يلغي الفارق بين طبيعة كل حقل، فالأوّل مطلق والثاني نسبي؛ "لذلك نتحدث عن إجماع الرياضياتيين واختلاف الفلاسفة".

سلطة المخيال

يجيب على سؤال حول هيمنة الجانب الأدبي على العلمي لدى الناس بالقول: "إن الآداب والفنون معطى روحي في المخيال الشرقي؛ فالناس يُعجبون بالجانبين معاً، أثناء حياة تلك الشخصية، على أساس أن ذلك من مظاهر عبقريتها، لكن بعد رحيلها سرعان ما يغفلون رصيدها العلمي، ولا يذكرون إلا رصيدها الأدبي، انسجاماً منهم مع هيمنة الروحي على العلمي، في المخيال الذي ينتمون إليه".

من ذلك أن لوكيوس أبوليوس الجزائري (125. 170م)، ترك مؤلفات في الطب والفلك والزراعة والرياضيات، لكنه لا يُذكر إلا بمصنّفه الأدبي "الحمار الذهبي"، الذي يعدّ أول رواية في التاريخ. 

وعمر الخيّام الذي قدم نظريات سبّاقة في الرياضيات والفلك، إلا أن رباعياته الشعرية طغت في ذكره على نظرياته العلمية تلك.

أوجه التشابه

استطاع الكاتب أن يكون مقنعاً في رصد أوجه الشبه، بين الشعر والرياضيات، من ذلك أن الشعر موسيقى التي هي إيقاع، وهذا صوت يتكرّر خلال كل وحدة زمنية منتظمة؛ ولا يوجد بحسبه علم بإمكانه نمذجة هذا الانتظام عدا الرياضيات، بمساعدة الفيزياء ودراساتها الصوتية عبر "سلاسل فوريي" الرياضياتية.

كما أن الشعر من حيث كونه مجازاً وإيحاءً واستعارة وتخييلاً وتصويراً، هو أقرب إلى الإشارة منه إلى العبارة، وكذلك الرياضيات التي هي علم الكائنات المجرّدة، أي علم الإشارات والرموز.

أوزان الشعر والرياضيات

هل كان الخليل بن أحمد الفراهيدي يهتدي إلى حصر بحور الشعر العربي المستعملة منها والمهملة، لو لم يكن يملك عقلاً رياضياً كبيراً؛ ذلك أن الدوائر العروضية هي في الأساس عمليات رياضية؟

يجيب الكاتب عن هذا السؤال، بسرد سبب وفاة صاحب معجم "العين" سنة 786، بحسيب أكثر من مؤرّخ، وهو أنه كان مشغولاً بإيجاد رياضيات مبسّطة، تجعل الجارية تقصد السوق فلا يغشّونها، أي أنه كان يسعى إلى ربط الرياضيات بالحاجات الشعبية، وبينما هو غارق في هاجسه ذاك، ارتطم رأسه بسارية فمات.

ولئن لجأ الكاتب إلى شرح بعض المعطيات الرياضية إلى الجداول والمصطلحات العلمية، حاول التخفيف من وطأة ذلك على القارئ غير المختصّ، بتمرير نتف من سيرته الذاتية في علاقته بالرياضيات، من ذلك أنه عاش صراعاً داخلياً، عند حصوله على الثانوية العامة، بين أن يختار شعبة الآداب أم شعبة العلوم الدقيقة؛ فأنقذه شقيقه الفزيائي ناصحاً:، "تستطيع أن تنبغ شعرياً ولو متأخراً، لكنك لا تستطيع أن تنبغ في الرياضيات إن أرجأت دراستها".

الرياضيات الضاحكة

ولم يخلُ الكتاب الذي تموقع، من حيث اللغة المستعملة، بين اللغتين الأدبية والعلمية، انسجاماً مع طبيعة الذات الكاتبة، من نوادر وطرائف لم تبتعد عن تأكيد التكامل بين الشعر والرياضيات.

ومن تلك النوادر إجابة الشاعر البحتري عن سؤال: "ما تقول في شعر أبي تمّام؟ فردّ قائلاً: "جيّده أفضل جيّدي، ورديئي أفضل من رديئه".

ويشرح طيّار الذي فاز بجائزة وزارة الثقافة والتلفزيون الجزائري في القصيدة المحمّدية، ما ورد في إجابة البحتري: "إنه لم يبلغ بشعره قمّة أبي تمّام، ولم ينزل به إلى سفحه؛ وبلغة الرياضيات فإن لأبي تمّام القمّة الحدية العظمى والصغرى، بينما ظل البحتري يتحرّك بينهما".

تصنيفات

قصص قد تهمك