"لا خيار آخر".. أوروبا تتخذ خطوات جذرية لتعزيز الإنتاج الدفاعي

time reading iconدقائق القراءة - 14
مفوض الاتحاد الأوروبي للسوق الداخلية تييري بريتون خلال مؤتمر صحافي في بروكسل ببلجيكا. 30 أبريل 2024 - AFP
مفوض الاتحاد الأوروبي للسوق الداخلية تييري بريتون خلال مؤتمر صحافي في بروكسل ببلجيكا. 30 أبريل 2024 - AFP
دبي -الشرق

يعتزم الاتحاد الأوروبي تخصيص أموال عامة لتعزيز الإنتاج الدفاعي محلياً، والحد من الاعتماد على شركات الدفاع في الولايات المتحدة، ما يمثل "تحوّلاً جذرياً" في سياسات انتهجها التكتل طيلة عقود، وفق صحيفة "وول ستريت جورنال". 

وذكرت الصحيفة الأميركية في تقرير، الخميس، أنه في وقت مبكر من العام الجاري تقدم مسؤول بالاتحاد الأوروبي بمقترح لافت، وهو إنشاء صندوق عام بقيمة 100 مليار يورو، للحد من اعتماد أوروبا على شركات الصناعات الدفاعية الأميركية، التي توفر ما يقرب من ثُلُثي المعدات العسكرية للقارة العجوز.

وأشار المسؤول الأوروبي إلى أن هذه الأموال يمكن أن تدعم الشركات الأوروبية لتطوير وتصنيع المزيد من الأسلحة محلياً، في الوقت الذي تواجه القارة تهديداً متفاقماً من قبل روسيا.

ولكن جدية هذه الخطوة التي تُعد "ثورية"، واجهت شكوكاً متزايدة من قبل العديد من المسؤولين. فعلى مدى عقود كان الاتحاد الأوروبي يحارب الحكومات الأوروبية من أجل الحد من دعم الدول للشركات المحلية. والآن، يدعو أحد قادته إلى استخدام أموال دافعي الضرائب لتمويل هذه الشركات، بحسب "وول ستريت جورنال".

فكرة قيد المناقشة

ورغم أن فكرة إنشاء هذا الصندوق لا تزال قيد المناقشة، كشف الاتحاد الأوروبي في مارس الماضي عن خطة بقيمة 1.5 مليار يورو، تستهدف شراء المزيد من معداتها الدفاعية محلياً.

وعندما التقى قادة أوربيون بعد فترة وجيزة في مؤتمر قمة استضافته بروكسل، تمحورت المحادثات حول كيفية زيادة تعزيز تمويل الصناعات الدفاعية في القارة، وما إذا كان سيتم إنجاز ذلك من خلال الديون، وفق تقرير "وول ستريت جورنال".

وتمثل الجهود المبذولة في مجال الصناعات الدفاعية مجرد مثال على رغبة أوروبا الجديدة في كسر ما كانت تعتبره لفترة طويلة "محظورات"، في محاولة لبناء مشاريع محلية.

ويهدف الاتحاد الأوروبي إلى الحفاظ على القدرة التنافسية للقاعدة الصناعية في القارة مع الولايات المتحدة والصين، اللتين تغمر حكومتاهما الشركات بإعانات ضخمة.

جاء اقتراح إنشاء صندوق لتمويل الصناعات الدفاعية بقيمة 100 مليار يورو من قبل مفوض الاتحاد الأوروبي للسوق الداخلية، تييري بريتون، الذي يؤمن بقوة الدولة في تشكيل الاقتصاد.

وفي مقابلة مع "وول ستريت جورنال"، منتصف مارس الماضي، داخل إحدى محطات الطاقة النووية الفرنسية التي كان يقوم بجولة فيها ضمن خطط لزيادة الإنتاج النووي، قال بريتون: "نحتاج الآن إلى أن يكون مصيرنا بأيدينا. لا يوجد خيار آخر سوى زيادة قدرتنا على إنتاج المزيد".

منافسة واشنطن وبكين

ويُمثل التوجه لاستخدام الأموال العامة لتحفيز الاقتصاد "تحوّلاً جذرياً" عن السياسات التي انتهجها الاتحاد الأوروبي لعقود، إذ فرضت "بيروقراطية الكتلة" قيوداً مشددة على المساعدات التي تقدمها الدول منذ ثمانينيات القرن الماضي.
 
وحاربت المفوضية الأوربية، وهي الحلقة الأقرب التابعة للاتحاد الأوربي إلى الحكومات، بما تتمتع به من سلطات مكافحة الاحتكار وقواعد مالية صارمة، "القومية الاقتصادية" في العواصم الأوروبية، لضمان ألا تؤدي الإعانات الحكومية إلى تشويه التنافسية، وتقويض مصالح نصف مليار مستهلك.

ولكن في السنوات الأخيرة، رفعت شركات صينية عملاقة مدعومة من الدولة بوتيرة متسارعة "سلسلة القيمة"، وهددت شركات الهندسة والسيارات الأوروبية التي تستخدم التكنولوجيا الفائقة.

وتقلّصت حصة الاتحاد الأوروبي من التصنيع العالمي إلى نحو 16% في عام 2022، وهو آخر عام متاح، من 24% في عام 2008، فيما ارتفعت حصة الصين من 14% إلى 31% خلال الفترة نفسها، وفقاً لبيانات البنك الدولي.

وفي الوقت نفسه، يجذب قانون خفض التضخم الأميركي، الذي يهدف، من بين أمور أخرى، إلى معالجة أزمة المناخ عن طريق الاستثمار في تصنيع الطاقة النظيفة، الشركات العالمية من خلال منح وإعانات تصل قيمتها إلى 1.2 تريليون دولار حتى عام 2032، وهذا يمثل نحو نصف صافي الإنتاج السنوي للشركات التابعة للاتحاد الأوروبي. 

وفي الداخل، يواجه مصنعون أوروبيون ضغوطاً شديدة بسبب ارتفاع أسعار الطاقة الناجم عن الغزو الروسي لأوكرانيا، والتحوّل المكلف إلى الطاقة الخضراء من محطات الطاقة التي تعمل بالغاز الطبيعي والفحم، والنقص المزمن في العمالة. ويواجه اقتصاد منطقة اليورو عقبات كثيرة منذ منتصف عام 2022، بحسب الصحيفة.

في هذا السياق، قال المدير التنفيذي لشركة رينو الفرنسية لصناعة السيارات لوكا دي ميو: "أعتقد أنني أدفع على الأرجح ضعف السعر الذي تدفعه أي شركة صينية مصنعة للسيارات مقابل الطاقة في الوقت الحالي".

وفي ديسمبر الماضي، قالت Oerlikon، وهي شركة سويسرية لصناعة طلاءات أسطح الأدوات والمكونات الدقيقة، ويعمل بها نحو 12 ألف موظف، إنها ستغلق مصنعها في ألمانيا، وتنقل الإنتاج إلى مدينة هانترزفيل، بولاية كارولينا الشمالية في الولايات المتحدة.

وقال الرئيس التنفيذي للشركة، مايكل سويس، إن "أوروبا تعد واحدة من أكثر المناطق تكلفة في العالم"، مضيفاً أن "رد فعل الصناعات، مثل صناعتنا، عادة ما يتمثل في البحث عن أفضل الظروف الإطارية".

ارتفاع التكلفة بأوروبا

وفي فرنسا وألمانيا وإيطاليا، بلغ إجمالي صافي تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر 82 مليار دولار في النصف الأول من عام 2023، من 53 مليار دولار قبل ذلك بعامين، وفقاً لبيانات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD.

والعام الماضي، قالت شركة BASF، إنها ستلغي 2600 وظيفة، معظمها في ألمانيا، برغم أنها تستثمر 10 مليارات يورو في مصنع متطور بالصين.

وفي فبراير الماضي، قال مارتن برودرمولر، الذي استقال مؤخراً من منصبه كرئيس تنفيذي لشركة المنتجات الكيميائية العملاقة في ألمانيا، إنه "من الواضح تماماً أن شيئاً ما لا يسير على ما يرام"، حسبما أوردت "وول ستريت جورنال".

ويمثل بريتون، المؤيد الأعلى صوتاً في بروكسل لضخ مليارات الدولارات من الأموال العامة في الشركات والقطاعات الأوروبية المهمة، بيروقراطي نادر في الاتحاد الأوروبي يتمتع بخبرة عملية في مجال الاستثمار.

ومن خلال هذه الخبرة، قال بريتون الذي شغل منصب وزير مالية فرنسا، إنه يعلم مدى "جاذبية الدعم الجديد الذي تقدمه الولايات المتحدة لمجالس إدارات الشركات"، مشيراً إلى أن أوروبا بحاجة إلى "الإعداد لردة فعل قوية".

نقص الرقائق 

وفي فترة تفشي جائحة كورونا، كانت الشركات في أوروبا وأميركا الشمالية تجد صعوبات بالغة بسبب نقص الرقائق الإلكترونية، المصنوعة في الغالب في شرق آسيا، وتدخل كمكون أساسي في صناعة السلع من السيارات إلى الأجهزة.

وسرعان ما دشنت الولايات المتحدة خطة حملت اسم "قانون الرقائق" لتعزيز تصنيع أشباه الموصلات داخل البلاد من خلال إعانات بلغت قيمتها عشرات المليارات من الدولارات.

وإزاء ذلك، دافع بريتون بقوة عن إصدار نسخة أوروبية من قانون الرقائق، الذي أصبح سارياً في عام 2023، بهدف مضاعفة حصة الاتحاد الأوروبي من سوق الرقائق الدقيقة العالمية إلى 20% من خلال توجيه الأموال العامة إلى القطاع، ما يسهل على الشركات الوصول إلى خطوط الإنتاج التجريبية ودعم تدريب القوة العاملة.

وقال بريتون في مقابلة مع "وول ستريت جورنال" في وقت سابق العام الجاري: "لقد فعلنا ذلك تماشياً مع الولايات المتحدة". ولكن البرنامج لم يضاهِ الدعم المالي المباشر، الذي كانت تقدمه واشنطن بقيمة 53 مليار دولار.

ورغم ذلك، اقترح بريتون قبل تقديم الحزمة أن تكون قيمتها مساوية تقريباً لما كان معروضاً في الولايات المتحدة. وفي وقت لاحق، قالت المفوضية الأوروبية إنها توقعت أن تساعد الخطة في حشد الاستثمارات العامة والخاصة بقيمة تتجاوز 43 مليار يورو.

مطابقة المساعدات

في عام 2022، لفت قانون خفض التضخم الأميركي، الذي خصص مليارات الدولارات للاستثمار، المديرين التنفيذيين في صناعة التكنولوجيا النظيفة بأوروبا.

وفي فبراير 2023، قال بيتر كارلسون، المدير التنفيذي لشركة نورثفولت السويدية، وهي أكبر شركة محلية مصنعة للبطاريات، لشبكة CNBC الأميركية، إنه سيكشف قريباً عن "خطط لإنشاء محطة تصنيع أميركية"، ما يعرض للخطر تعهد نورثفولت السابق ببناء مصنع في ألمانيا.

وفي اجتماع مع البيروقراطيين في بروكسل خلال الشهر التالي، عمد رئيس تنفيذي تلو الآخر إلى مناشدة المفوضية السماح للحكومات الأوروبية بمطابقة الدعم الأميركي دولاراً بدولار.

وقال أحد المسؤولين التنفيذيين لـ"وول ستريت جورنال"، إن بريتون وزميلته مارجريث فيستاجر، مفوضة الاتحاد الأوروبي القوية لمكافحة الاحتكار، والمتشككة في سياسة التدخل في الصناعة، "بديا غير مكترثين"، ولكن حضورهما المشترك طمأن المسؤولين التنفيذيين إلى أن ثم صفقة كبرى في المتناول.

وأضاف المسؤولون أن بريتون مارس، إلى جانب فرنسا وألمانيا، ضغوطاً مكثفة للموافقة على بند تطابق المساعدات.

وبعد أيام، قال الاتحاد الأوروبي إنه سيسمح للحكومات بمطابقة الدعم الأميركي في مجموعة من الصناعات، ما يؤدي إلى فتح الباب أمام مساعدات أكبر بكثير من تلك التي كان يقدمها الاتحاد الأوروبي.

تحركات أوربية

وبالنسبة لشركة نورثفولت السويدية، فقد فتحت هذه الخطوة الباب أمام نحو 900 مليون يورو من المال العام للمصنع المزمع إنشاؤه في ألمانيا على ساحل بحر الشمال.

وفي يناير، منحت فيستاجر الضوء الأخضر للتمويل، لتقف بذلك إلى جانب نائب المستشار الألماني روبرت هابيك الذي ستتحمل حكومته الفاتورة.

وفي مارس الماضي، أقرت المفوضية الأوروبية خطة أيدها بريتون لتشجيع الحكومات الأوربية على التحرك باتجاه شراء نحو نصف معداتها الدفاعية محلياً، بما في ذلك عن طريق تشجيع عمليات الشراء المشتركة الموسعة.

وقال المسؤولون إن هناك حاجة إلى بذل المزيد من الجهود لدعم الإنتاج المحلي.

ولملء هذه الفجوة، ودعم أوكرانيا في معركتها ضد روسيا، دعا بعض الزعماء الأوربيين إلى "اقتراض مشترك" على غرار خطة التعافي من الوباء التي وضعها الاتحاد الأوروبي وبلغت قيمتها نحو 800 مليار يورو.

ولإنشاء هذا الصندوق، وهو المشروع الذي تم تدشينه في عام 2021، تقوم المفوضية الأوروبية ببيع سندات مشتركة إلى مستثمرين دوليين لتمويل الاستثمار العام في جميع أنحاء القارة.

وتدعم معظم القوى الكبرى صناعاتها الدفاعية، ولكن الانتقال إلى التمويل الموسع على مستوى الاتحاد الأوروبي، سيمثل تحولاً جذرياً بالنسبة للكتلة.

نهج "متهور"

لم يكن بريتون أول مسؤول في الاتحاد الأوروبي يدعو إلى التمويل الموسع للدفاع، ولكن فكرته التي طرحت في يناير بتمويل الصناعات الدفاعية بـ100 مليار يورو، لاقت صدى موسعاً، وساعدت في وضع خطة زمنية، حسب ما ذكر أحد مساعديه لـ"وول ستريت جورنال". ويواجه الاقتراح معارضة قوية من قبل بعض الدول، بما فيها ألمانيا.

ونقلت "وول ستريت جورنال" عن أحد مسؤولي الاتحاد الأوروبي قوله إن النهج "المتهور"، والميل إلى "تفضيل السرعة على التعاون"، أحبط بعض أقران بريتون، وعزى ذلك إلى أن مفوض الاتحاد الأوروبي للسوق الداخلية "لا يبالي بالروح الجماعية".

ومؤخراً، دخل بريتون في صدام مع رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، التي تقود حملة من أجل البقاء في منصبها لولاية ثانية هذا العام.

وساعد بريتون في قيادة "ثورة" ضد اختيار فون دير لاين لمبعوث جديد للشركات الصغيرة، ما أدى إلى استقالته في أبريل. وفي مارس نشر بريتون منشوراً على منصات التواصل الاجتماعي، أشار فيه إلى أن حزب فان دير لاين السياسي "لا يثق بها".

صعود أفكار فرنسية

ويتزامن صعود بريتون المقرب من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، مع صعود الأفكار الاقتصادية الفرنسية الأوسع نطاقاً، إذ عاد إلى الحياة من جديد تدخل الحكومة في تشكيل الشركات والاقتصاد،.

وهي المقاربة التي طالما سخر منها اقتصاديو السوق الحرة باعتبارها هوساً فرنسياً، أنشأ سجلاً سيئاً في اختيار الشركات الفائزة، فيما تقوم الدول في جميع أنحاء العالم بتمويل الصناعات الجديدة من صناعة الرقائق إلى الطاقة الخضراء.

وأشار بريتون إلى "عبثية الدفاع عن المثل العليا المؤيدة للسوق"، في الوقت الذي اضطلعت فيه حكومات بجميع أنحاء العالم بأدوار أكثر إيجابية في "توجيه الاقتصاد". 

وقال بريتون إن هذه المرحلة تمثل "نهاية السذاجة"، متسائلاً: "هل كانت أوروبا ساذجة تجاه الصين؟"، قبل أن يجيب: "بالطبع، بالطبع، بالطبع".

وقدمت الصين إعانات وصلت إلى 1.7% من الناتج الإجمالي المحلي إلى شركات محلية في عام 2019، مقارنة بـ0.4% من الناتج الإجمالي المحلي لألمانيا والولايات المتحدة، وفقاً للتقرير الصادر في عام 2022 عن مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، وهو مركز أبحاث مقره واشنطن.

وبدلاً من التركيز على الإعانات الوطنية يرغب بريتون في أن ينفق الاتحاد الأوروبي بدرجة أكبر ككتلة، ومن ثم دعا في وقت سابق إلى إنشاء صندوق سيادي يجري تمويله من خلال الاقتراض المشترك، لدعم استجابة الاتحاد الأوروبي لقانون خفض التضخم الأميركي.    

تصنيفات

قصص قد تهمك