"فيلسوف السعادة" سبينوزا.. وتمثال الحرية والأخلاق

يقول الفيلسوف باروخ سبينوزا: "إن الرغبة التي تولّد السعادة، أشدّ رسوخاً وثباتاً من تلك التي تولّد الحزن".

وقال هيغل أيضاً: "لن تكون فيلسوفاً إلّا إذا دَرَستَ سبينوزا أولاً". 

لم ينحاز سبينوزا (1632-1677)، أعظم فلاسفة القرن السابع عشر، إلا لمفهومَين وسَما حياته، هما الأخلاق شعوراً بالسعادة، والحرية. 

 وعلى الرغم من النبذ والإقصاء بفتوى من الكهنوتية السلفية، التي اعتبرته خارجاً على اليهودية، لم يقابل سبينوزا ذلك بالشكوى والتبرّم، بل استمر سعيداً بعمله الفكري متقشّفاً زاهداً.

النحات الهولندي نيكولاس دنكس Nicolas Dings، تأمّل في شخصية فيلسوف السعادة الهولندي باروخ سبينوزا، وقدّم ذلك في عمل  نحتي من البرونز وسط مدينة أمستردام، لخّص فيه فكر سبينوزا تشكيلياً وليس فلسفياً. 

 لقد أراد "فيلسوف السعادة" أن يرفع حياته إلى مستوى كتابه الشهير "الأخلاق"، الذي يتطابق سلوكاً مع فلسفته. والتزم بحرية المجتمع، وتحرير الإنسان من سيطرة العقائد، كما جاء في كتابه "رسالة في اللاهوت والسياسة". 

نصب سبينوزا في أمستردام

يُعدّ تمثال سبينوزاً، نصباً للسعادة والتأمّل الفلسفي، وخروج الدولة من مفهوم السلطة إلى الحرية. هكذا، قام النّحات الهولندي بتثبيت مفهوم سبينوزا للدولة، على القاعدة الرخامية للنصب، بجملته الشهيرة "الغاية من الدولة، هي الحرية".

لماذا نصف تمثال سبينوزا بالنصب وليس التمثال؟

 التكوين البصري لنصب سبينوزا، هو الذي يقود إلى ذلك، إذ يبدو الفيلسوف شامخاً بهياً ذا طلعة متسامحة، وابتسامة تلقي فرحها وبشاشتها على النصب كله، ابتداءً من الوجه والجسد، وانتهاءً إلى المكان المحيط به، لا تشي ابتسامته السعيدة، بسيماء الشفتين فحسب، بل بسيماء المكان قاطبة. 

تغطّي جبّة الفلسفة والأخلاق المزدانة بالزهور والطيور جسدَه، كأنها حديقة وأعشاش، وهي المعطف السميك الذي حمى الفيلسوف، عندما تعرّض لهجوم متطرّف بسكين. احتفظ به تذكيراً  بحادثة الاغتيال، إذ دفعته إلى التصميم على مقارعة السلفية الدينية في نتاجه الفلسفي.

 وعليه، اعتبر سبينوزا المروّج الأوّل لمذهب "العلمانية"، أو فصل الدين عن السياسة والدولة. 

نادرة هي الأعمال التشكيلية التي تجمع ما بين دراسة وتحليل الشخصية، وبين العمل التشكيلي الذي يصوّرها مشهدياً، وعليه استحقّ توصيف النصب، وليس التمثال فحسب. 

 كان النحّات مايكل أنجلو قد رسّخ طريقة لافتة في تمثال نصب "موسى" (1513-1515)، إذ قرأ قصّته في التوراة، وتمعّن بأوصافه ونبوءته، فجاء ذلك في عمل مشهدي بصري، وتفاصيل دقيقة تشريحياً:

 نظرة متوثّبة، أفقاً للمستقبل، عضلات مفتولة، يحمل بيده اليمنى كتاب الوصايا، أو كتاب النبوّة. الوجه ذو تعبيرات حسّية ودلالية كثيرة، كل شيء يوحي بالحيوية والعنفوان، وكأن النصب، هو نتاج إخراج سينمائي روائي، ما جعل فرويد يجلس أمام نصب موسى ساعات طويلة، متأمّلاً التأثيرات النفسية المنبعثة منه. 

النهر ونصب سبينوزا

يقع تمثال سبينوزا على إحدى القنوات المائية الشهيرة في أمستردام، التي تصب في نهر "أمستل". وهكذا تتصل بالمياه جُبّته المزدانة بالطيور والورود، فضلاً عن ابتسامته وفتوة محيّاه، ما يشكّل علاقة بالخصوبة والنماء والحياة. هذه هي صفات فيلسوف السعادة كما مارسها في حياته.

 لم يقتصّ الفيلسوف من المُتسبّب بمحاولة اغتياله، ولم يتهجم سلوكياً على محفل الحاخامات الذي قرّر نبذه وطرده ومقاطعته: "قررنا فصل هذا الرجل من أُمّة بني إسرائيل.. نلعن المدعو سبينوزا".

 يكتب والت ويتمان في ديوانه "أوراق العشب": تحلم أن تكون نهراً، وتنام وكأنك نهر"، كانت حياة وفلسفة سبينوزا في معنى النهر.

سيمائيات المكان 

يؤثّر مكان النصب والجداريات بشكل مباشر على مشاعر الناس، ما يخلق قاعدة جمالية له، لاستقبال العمل الفني، يسهم بتحقيق توافق ما بين شخصية التمثال ومحيطه، مجترحاً قراءات متنوّعة. أي أنه لكل مكان لغة تَخَاطب، ولكل لغة مكان يشي بها؛ تختلف لغة الجامعات عن لغة المقاهي، وهذه عن لغة الأسواق والمحلات التجارية.

التلقي الجمالي خلافاً للشائع

يقول النحات الفرنسي رودان: "يجب على الفنان أن يخلق شرارة قبل أن يتمكّن من إشعال النار، وقبل أن يولد الفن، يجب أن يكون الفنان مستعداً للاشتعال بنار إبداعه".

 اختلفت معايير التلقّي الجمالي في اللوحة التشكيلية، وفي الفن أصلاً، وقد غيّر الفنان الإسباني تابيس مفهوم اللوحة التشكيلية التقليدية، كما غيّر التلقي الجمالي للفن التشكيلي عموماً، باستعماله الإسمنت والمتلاشيات، لتقديم لوحة مغايرة عن فنّ الصالونات المخملي، إذ اشتغل على الأشياء المهمَلة والمنبوذة، وجعلها ليست من عناصر اللوحة وحسب، بل ومن وسائل التلقّي الجمالي، الذي كان لوقت قريب أرستقراطياً، وفخماً.

النصب وضحايا العنف

توجد على دكّة النصب الرخامية يساراً، كرّة مضلّعة، لا نعرف إذا ما كانت تشير إلى الكرة الأرضية، أو إلى دوامة الأفكار والرؤى؟ يقع بجوار سبينوزا نصب ضحايا "المحرقة"، ذو القاعدة الرخامية، وعليها أسماء الضحايا.

كان سبينوزا، ضحية العنف السلفي للحاخامات، وها هو يجاور ضحايا العنف المادي. تسمّى المنطقة برمتها "الحي اليهودي"، وهي كانت "غيتو" ومن أغنى مناطق أمستردام، وفيها التراث الهولندي البحري مثل:

 برج "العويل" إشارة إلى صراخ النساء وهن يودّعن أزواجهن، إذ كانت تستمر الرحلة البحرية شهوراً، وأحيانا يكون الغرق من نصيب بعضها. منطقة الميزان، وهي رصيف تحميل البضائع. كما تضمّ المنطقة أكبر سوق شعبي للكتب والأشياء المستعملة، ويوجد فيها المتحف والمعبد اليهودي، فضلاً عن بيت الفنان الهولندي رامبرانت، وصالة للأوبرا، وكنيسة من القرون الوسطى.

بيت سبينوزا في دنهاخ     

يوجد بيت سبينوزا في دنهاخ "لاهاي" الذي انتقل إليه من أمستردام، بعد نبذه وطرده، وهناك تمثال آخر له بتوقيع  الفرنسي فردريك هيكسامر، قال أرنست رينان عنه أثناء تدشينه وسط حشد من العلماء والمفكرين: "ربما لم يرَ أحد الله عن كثب مثلما رآه هنا من قبل سبينوزا".

ثمّة آراء تقول بأصل الفيلسوف الأندلسي، وهناك مَن يقول بتأثّره بالشيخ محي الدين بن عربي بمفهومه "وحدة الوجود"، وهو من عائلة يهودية أشهرت المسيحية خوفاً من ملاحقات محاكم التفتيش، أسوة بالأندلسيين بعد سقوط غرناطة. وقد غيّر اسمه تحوّطاً من باروخ إلى بندكتوس.